’شجرة السرّيس‘... سؤال الفنّ البلديّ | شهادة

من عرض أمسية «شجرة السرّيس».

 

«فرقة السرّيس»

أقامت «فرقة السرّيس للدبكة الشعبيّة»، بدعم من «بلديّة باقة الغربيّة» و«المركز الجماهيريّ»، أمسية في الـ 23 من تمّوز (يوليو) 2023، بعنوان «شجرة السرّيس»، في المسرح البلديّ الجديد في البلدة؛ لمناسبة مرور عشر سنوات على إنشاء «فرقة السرّيس»، وقد تميّز الحدث الّذي حضره المئات من سكّان البلدة والجوار، بجمعه بين الفنّيّ والاحتفائيّ.

«فرقة السرّيس» فرقة تمثيليّة لباقة الغربيّة، تُعَلِّم الدبكة الفلسطينيّة منذ عام 2013، وقدّمت أكثر من مئة عرض على منصّات محلّيّة ودوليّة، شارك فيها أكثر من 50 عضوًا شابًّا من باقة والمنطقة. وقد غدت الفرقة مدرسة لتعليم الدبكة في المؤسّسات التربويّة والأطر الشبابيّة في باقة، وفي البلدان المجاورة؛ إذ خرّجت أكثر من 1000 متعلّم للدبكة.

ما دور الفنّ والمسرح في الحالة الاستعماريّة؟ وهل يمكن أن يكون وكيلًا للمستعمرين؟ وكيف يمكن إنتاج فنّ ’بلديّ‘ بالمعنى الإيجابيّ للكلمة؟

 

في لبّ الأمسية، كان عرض «شجرة السرّيس»، العرض الأوّل الّذي تقدّم فيه الفرقة أداءً يخرج من قالب عروض الدبكة الشعبيّة التقليديّة؛ ليشمل عوامل مسرحيّة ونصوصًا أدبيّة وشعريّة. تكوّن العرض من ثلاث فقرات؛ هي: جذور السرّيس، وفروع السرّيس، ودوائر السرّيس. كلّ فقرة ارتكزت على تصوير محور زمنيّ مُتَصَوَّر من قِبَل الفلسطينيّين أبناء باقة الغربيّة، الأولى عن الماضي والحنين، والثانية عن ثنائيّة التراث والتحديث، والثالثة عن تساؤلات المستقبل. وقد أخرج العرض وأعدّه مدرّب الفرقة جاد قعدان [كاتب المقالة]، باستعانة بمختصّات ومختصّين في مجال المسرح والرقص الصوفيّ. وإلى جانب شباب «فرقة السرّيس»، اشترك في العرض كلّ من هيثم قعدان في الغناء، وعمر أبو مخّ في عزف الإيقاع.

بوصفي مدرّبًا للفرقة ومخرجًا للعرض، منذ ذاك المساء، وبتجربة إدراك وفهم مُؤَخَّر؛ لم تغادرني التساؤلات حول طبيعة الحدث. ما الحاجة الإنسانيّة إلى إنتاج الفنّ والرقص والموسيقى واستهلاكها؟ هل هي محرّك للتواصل الجمعيّ والتنظيم واستعراض التنظيم؟ هل يمكن لحضارة أن تكون بلا فنون؟ وهل نوع الفنّ ولونه يعكسان طبيعة الحضارة؟ ما دور الفنّ والمسرح في الحالة الاستعماريّة؟ وهل يمكن أن يكون وكيلًا للمستعمرين؟ وكيف يمكن إنتاج فنّ ’بلديّ‘ بالمعنى الإيجابيّ للكلمة؟ وهل يمكن أصلًا النهوض بالفنون حقيقة بدون تحقيق حلم المدينة العصريّة؟

 

غياب/ تغييب المدينة

منذ النكبة، بات واضحًا أنّ من أهمّ جوانب مأساة الفلسطينيّين في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948 - أي المجنَّسين إسرائيليًّا - هي مسألة غياب، أو تغييب، المدينة؛ فقد حَرِصَت السياسات العنصريّة للحركة الصهيونيّة ودولتها، إسرائيل، على إعاقة أيّ نوع من تطوّر مزايا الجمعيّة عند الفلسطينيّين قدر الإمكان، ومن بينها تطوّر المدينة الفلسطينيّة. لكن، ماذا يميّز المدينة عن دونها؟ لماذا يُرْبَط الإبداع والفنون، والتخطيط الجمعيّ، والهويّة القوميّة، بالمدن؟

المدينة بمنزلة الملتقى لأبناء نفس الشعب، هي المنصّة الّتي فيها يحاور نفسه، وهي المنصّة الّتي فيها ينتقل من مستوى الإدارة السياسيّة القبليّة إلى المستوى القوميّ. المدينة، إذا كانت عصريّة، فضلًا على كونها ذات بنية تحتيّة تتيح سكن أعداد كبيرة من النسمات؛ فهي أيضًا ذات بنية تشجّع الحركة لا السكون، وتحثّ على التطلّع إلى العالم لا البلادة، والهجرة إليها من الأقطاب المجاورة، ما يجعلها شجرة دائمة الخضرة، متنوّعة ومتجدّدة على نحو دائم، ما يموضعها نقيضة للـ ’بلد‘. البلد، على الأقلّ في مفهومنا المعاصر والمحلّيّ، منها لفظ ’البلادة‘، وهي شُبِّهَت في بعض المعاجم العربيّة بالـ ’قبر‘، هي المكان الّذي يسكن (لا يتحرّك، من السكون) به الناس؛ أي بكلمات أخرى: لا حركة هجرة إليه بل فقط منه.

من هنا، مِنَ المُتَوَقَّع وجود تنظّم بشريّ مختلف جوهريًّا بين المدينة والبلد، ولعلّ من أبرز هذه الاختلافات طبيعة الفنون المدنيّة، وطبيعة الفنون البلديّة. على ظاهر الأمر، يمكن الادّعاء بأنّ الفنون المدنيّة تكون موجّهة إلى جمهور مُتَخَيَّل عالميّ، ينبغي أن تحاول طرح أسئلة إنسانيّة واسعة المدى، في حين أن الجمهور البلديّ المغلق والمجترّ والمتكرّر ليس مُتَخَيَّلًا أصلًا، بل إنّه فعليّ، يُعْرَف بالاسم. من هنا، قد يُدَّعى أنّ الفنون المدنيّة تُعْنى بالعالم، والفنون البلديّة تُعْنى بأهل البلد نفسها بالأساس. بقراءة مغايرة، إذا افترضنا أنّ التجلّيات الثقافيّة المتنوّعة، في الجماعات والبلدان الضيّقة والمحدودة، تنبثق من عمق النفس البشريّة العالميّة نفسها، فيمكن ادّعاء أنّ في الفنون البلديّة ما هو نفيس وفريد، ما لا يقلّ عن الفنون المدنيّة.

 

 

فالبنى والتشييدات المجتمعيّة البلديّة تتيح خلق صفوف دبكة وحلقات سحجة مركّبة من مئات الأفراد، يشاركون بعضهم بعضًا في هذه الطقوس منذ وقت طويل جدًّا. الشبكة الاجتماعيّة البلديّة الواسعة والثابتة هي بمنزلة رافعة للتركيبات التقنيّة في الطقوس الثقافيّة بين أهل البلد، كلّما اشتدّ الرباط وتوثّق ازدادت الطقوس والفنون تركيبًا وتعقيدًا. من هنا، من المتوقّع ألّا نجد هذا المستوى من التركيب الفنّيّ، المتمثّل في رقصة معقّدة جدًّا مثل الدبكة الشعبيّة، في المدن الّتي تعجّ بالتنوّع والتجدّد والهجرة.

لكن، ماذا يحصل حين تلتقي عوامل من البنية التحتيّة المدنيّة في البيئة البلديّة وفنونها؟ ويمكن تحديد السؤال في المثال المطروح في باقة الغربيّة؛ أي بناء مسرح عصريّ في بلد راكد غير متحرّك.

يمكن التفكير بــ «شجرة السرّيس» جوابًا ممكنًا عن هذا السؤال. المسرح، بنيةً اجتماعيّة، يفتح قناة إنتاج عروض وتمثيل كثيف الحضور والمضامين؛ فالكثيرون من المنظّرين الدراميّين يقولون إنّ المسرح فنّ الحاضر، يفتح فُسْحَة زمكانيّة فريدة بين الفنّان وجمهوره؛ ليبدأ هو حوارًا عن أهمّ القيم والهموم الجمعيّة، وليستمرّ الحوار في ما بعد بين الأفراد وبين جوانب حيواتهم اليوميّة. إذن، هنا تكون «شجرة السرّيس»، ولكونه العرض الأوّل لفرقة دبكة شعبيّة اعتادت على العروض القصيرة جدًّا، الّتي يمكن وصفها صورًا أو سكيتشات، فإنّها كانت الفرصة الأولى لبناء عرض كامل تحت عنوان "عرض مسرحيّ معاصر"؛ أي من تلك النوعيّة الّتي عليها جذب اهتمام وانتباه الجمهور لمدّة زمنيّة طويلة. وهذا ما حصل.

 

«شجرة السرّيس»

الفقرة الأولى من العرض كانت باسم «جذور السرّيس»، وقد تمحورت حول مفهوم التراث، عن طريق مشهد مسرحيّ يعرض صورة مُتَخَيَّلة نوستالجيّة للماضي المحلّيّ الفلسطينيّ الباقاويّ. في هذه الفقرة، وظّفنا عوامل رمزيّة مثل المعجم الفلسطينيّ الفلّاحيّ القديم، بلهجة محكيّة باقويّة خالصة، ومثل اللباس التراثيّ، وكذلك التصوّر المعاصر للأحداث والعلاقات الاجتماعيّة القديمة؛ ممّا يشمل أيضًا القيم المنسوبة إليها، مثل الأخوّة والاحترام والهرميّة والكرم وغيرها.

ومن ثَمّ انتقلنا إلى الفقرة الثانية بعنوان «غصون السرّيس»، وهي فقرة تُعْنى بثنائيّات المحافظة والتجديد، التراث والحداثة، الأصول والإبداع، الهرميّة والتمرّد، والكبار والشباب. اشتملت هذه الفقرة على دمج ما يُسَمّى ’فلكلور‘، وبين عوامل مسرحيّة خارجة عنه، بالإضافة إلى زحزحة المحور الزمنيّ إلى الزمن الحاليّ؛ أي عرض المشهد والتساؤلات من منظور شابّ باقويّ معاصر.

أبقينا تأطير الدوران الظاهر على المنصّة معلّقًا بين الفلسفة العدميّة القائلة بأنّ لا هدف من الفعل والحركة، وأنّنا نلفّ وندور محلّنا بدون جدوى، وبين الفلسفة الصوفيّة الّتي تستغلّ الدوران للتواصل مع الله...

نهايةً، اخْتُتِم العرض بفقرة «دوائر السرّيس»، الّتي انبثقت من تجربة مناجاة الفرد الفلسطينيّ للجمع الّذي يتبع إليه، وبالتشديد على التطلّعات نحو المستقبل، وبها اسْتُغِلّ فعل الدوران بصفته فلسفة حياة أو مفهومَ ’لفّ ودوران‘.

في مبنى فقرة «دوائر السرّيس»، حاولنا إبراز توتّرات مثل اليأس والأمل، التمرّد والانسياق، والحياة والموت. ثمّ أبقينا تأطير الدوران الظاهر على المنصّة معلّقًا بين الفلسفة العدميّة القائلة بأنّ لا هدف من الفعل والحركة، وأنّنا نلفّ وندور محلّنا بدون جدوى، وبين الفلسفة الصوفيّة الّتي تستغلّ الدوران للتواصل مع الله، ولوصول أعلى المراحل الروحانيّة البشريّة وأجلّها.

 

حلم البَلَدْ

ما زلت أفكّر في طبيعة التغييرات الّتي تطرأ على بلد مثل باقة الغربيّة؛ بلد قابع تحت استعمار، معزول ومحروم من الامتداد الطبيعيّ والتطوّر نحو مدينة فلسطينيّة معاصرة ومستقلّة، لكنّها في نفس الوقت تتشكّل من سكّان وأهالٍ وشباب يكسرون السقوف الزجاجيّة كلّ حين، ويطمحون لبناء ثقافة أصيلة وشامخة، بدلًا من أن يكونوا تابعين للمستعمِرين. في هذا الحال المفعم بالتوتّرات، ثمّة فرصة لإنتاج فنّيّ فريد من نوعه، ولسرد قصص قد تكون مثالًا وأثرًا مهمًّا للشعوب. في ما يحاكي ما اقْتُبِسَ من جداريّة محمود درويش بصوته في أحد مشاهد العرض:

"سأحلم

لا لأُصْلِحَ مركبات الريح

أو عطبًا أصاب الروح

فالأسطورة اتّخذت مكانتها المكيدة في سياق الواقعيّ

وليس في وسع القصيدة أن تغيّر ماضيًا يمضي

ولا يمضي

ولا أن تُوقِفَ الزلزال

ولكنّي سأحلمُ

ربّما اتّسعت بلادٌ لي

كما أنا

واحدًا من أهل هذا البحر...".

 


 

جاد قعدان

 

 

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في «جامعة تل أبيب». معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.